فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا}.
حكاية لقول أهل الكتاب في عهده صلى الله عليه وسلم، في مدة لبثهم نائمين في كهفهم الذي التجأوا إليه، ليتفرغوا لذكر الله وعبادته. وقد رد عليهم بقوله سبحانه: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} وإليه ذهب قتادة ومطرف بن عبد الله. وأيده قتادة بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه {وَقَالُواْ} {وَلَبِثُواْ} قيل: وعليه فيكون ضمير: {وَازْدَادُواْ} لأهل الكتاب. وإنه يظهر فيه وجه العدول عن المتبادر وهو ثلاثمائة وتسع سنين. مع أنه أخصر وأظهر. وذلك لأن بعضهم قال: ثلاثمائة: وبعضهم قال أزيد بتسعة. ولا يخفى ركاكة ما ذكر، فإن الضمير للفتية. ووجه العدول موافقة رؤوس الآي المقطوعة بالحرف المنصوب. ودعوى الأخصرية تدقيق نحوي لا تنهض بمثله البلاغة. وأما الأظهرية فيأباها ذوق الجملتين ذوقًا سليمًا. فإن الوجدان العربي يجد بينهما في الطلاوة بعد المشرقين. ودعوى أن فيها إشارة إلى أنها ثلاثمائة بحساب أهل الكتاب بالأيام، واعتبار السنة الشمسية، وثلاثمائة وتسع بحساب العرب، واعتبار القمرية، بيانا للتفاوت بينهما، إذ التفاوت بينهما في كل مائة سنة ثلاث سنين- دعوى يتوقف تصحيحها على ثبوت أن أهل الكتاب ازدادوا بالسنة الشمسية وأنه قص علينا ما أرادوه بالسنة الهلالية، فلذلك قال: {وَازْدَادُوا تِسْعًا} لنقف على تحديد ما عنوه، ومن أين يثبت ذلك؟ وما الداعي لهذا التعمق المشوش؟ والآية جلية بنفسها في دعواهم مدة لبثهم. وقد يريدون السنة الشمسية أو الهلالية، وبأي منها قالوا: فقد رد عليهم بقوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} أي: بمقدار لبثهم. فلا تقفوا ما ليس لكم به علم، وما هو غيب يرد إليه سبحانه، كما قال: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِِ والأَرْضِ} أي: ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما، أي: أنه هو وحده العالم به: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أي: ما أبصره لكل موجود! وأسمعه لكل مسموع لا يخفى عليه شيء ولا يحجب بصره وسمعه شيء.
قال الزمخشري: جاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات، للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حد ما عليه إدراك السامعين والمبصرين، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها، كما يدرك أكبرها حجمًا وأكثفها جرمًا، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر.
لطيفة:
قال في الإكليل: استدل بقوله تعالى: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} المنتخب على جواز إطلاق صيغة التعجب في صفات الله تعالى، كقولك: ما أعظم الله وما أجله. انتهى.
يعني أن يشتق من الصفات السمعية صيغة التعجب قياسًا على ما في الآية وقد يقال بالوقف. ينبغي التأمل.
وقوله تعالى: {مَا لَهُم} أي: أهل السموات والأرض في خلقه: {مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} أي: يتولى أمورهم: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ} أي: قضائه: {أَحَدًا} أي: من مكوناته العلوية والسفلية. بل هو المنفرد بالحكم والقضاء فيهم، وتدبيرهم وتصريفهم، فيما شاء وأحب.
قال المهايمي: فيه إشارة إلى أن علمهم بهم إما من قبيل الغيب، فهو مختص بالله. أو من قبيل المسموع، فهو أسمع. أو من قبيل البصر، فهو أبصر. انتهى. وهو لطيف جدًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)}.
رجوع إلى بقية القصة بعد أن تخلل الاعتراض بينها بقوله: {فلا تمار فيهم} إلى قوله: {رشدًا} [الكهف: 22- 24].
فيجوز أن تكون جملة {ولبثوا} عطفًا على مقولهم في قوله: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم} [الكهف: 22] أي ويقولون: لبثوا في كهفهم، ليكون موقع قوله: {قل الله أعلم بما لبثوا} [الكهف: 26] كموقع قوله السابق {قل ربي أعلم بعدتهم} [الكهف: 22]، وعليْه فلا يكون هذا إخبارًا عن مدة لبثهم.
وعن ابن مسعود أنه قرأ: {وقالوا لبثوا في كهفهم} إلى آخره، فذلك تفسير لهذا العطف.
ويجوز أن يكون العطف على القصة كلها.
والتقدير: وكذلك أعثرنا عليهم إلى آخره، وهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة وتسعَ سنين.
وعلى اختلاف الوجهين يختلف المعنى في قوله: {قل الله أعلم بما لبثوا} [الكهف: 26] كما سيأتي.
ثم إن الظاهر أن القرآن أخبر بمدة لبث أهل الكهف في كهفهم، وأن المراد لبثُهم الأول قبل الإفاقة وهو المناسب لسبق الكلام على اللبث في قوله: {قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم} [الكهف: 19]، وقد قدمنا عند قوله تعالى: {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم} [الكهف: 9] إلخ... أن مؤرخي النصارى يزعمون أن مدة نومة أهل الكهف مائتان وأربعون سنة. وقيل: المراد لبثهم من وقت موتهم الأخير إلى زمن نزول هذه الآية. والمعنى: أن يقدر لبثهم بثلاثمائة وتسع سنين.
فعُبّر عن هذا العدد بأنه ثلاثمائة سنة وزيادة تسع، ليعلم أن التقدير بالسنين القمرية المناسبة لتاريخ العرب والإسلام مع الإشارة إلى موافقة ذلك المقدار بالسنين الشمسية التي بها تاريخ القوم الذين منهم أهل الكهف وهم أهل بلاد الروم.
قال السهيلي في الروض الأنف: النصارى يعرفون حديث أهل الكهف ويؤرخون به.
وأقول: واليهود الذين لَقّنوا قريشًا السؤالَ عنهم يؤرخّون الأشهر بحساب القمر ويؤرخون السنين بحساب الدورة الشمسية، فالتفاوت بين أيام السنة القمرية وأيام السنة الشمسية يحصل منه سنة قمرية كاملة في كل ثلاث وثلاثين سنة شمسيةً، فيكون التفاوت في مائة سنة شمسيةٍ بثلاث سنين زائدة قمرية.
كذا نقله ابن عطية عن النقاش المفسر.
وبهذا تظهر نكتة التعبير عن التسع السنين بالازدياد.
وهذا من علم القرآن وإعجازه العلمي الذي لم يكن لعموم العرب علم به.
وقرأ الجمهور: {ثلاث مائةٍ} بالتنوين.
وانتصب {سنين} على البدلية من اسم العدد على رأي من يمنع مجيء تمييز المائة منصوبًا، أو هو تمييز عند من يجيز ذلك.
وقرأه حمزة والكسائي وخلف بإضافة مائة إلى سنين على أنه تمييز للمائة.
وقد جاء تمييز المائة جمعًا، وهو نادر لكنه فصيح.
{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
إن كان قوله تعالى: {ولبثوا في كهفهم} [الكهف: 25] إخبارًا مِن الله عن مدة لبثهم يكون قوله: {قل الله أعلم بما لبثوا} قطعًا للمماراة في مدة لبثهم المختلف فيها بين أهل الكتاب، أي الله أعلم منكم بمدة لبثهم.
وإن كان قوله: {ولبثوا} حكاية عن قول أهل الكتاب في مدة لبثهم كان قوله: {قل الله أعلم بما لبثوا} تفويضًا إلى الله في علم ذلك كقوله: {قل ربي أعلم بعدتهم} [الكهف: 22].
وغيبُ السماوات والأرض ما غاب عِلمه عن الناس من موجودات السماوات والأرض وأحوالهم.
واللام في {له} للملك.
وتقديم الخبر المجرور لإفادة الاختصاص، أي لله لا لغيره، ردًا على الذين يزعمون علم خبر أهل الكهف ونحوهم.
و{أبصر به وأسمع} صيغتا تعجيب من عموم علمه تعالى بالمغيبات من المسموعات والمبصرات، وهو العلم الذي لا يشاركه فيه أحد.
وضمير الجمع في قوله: {ما لهم من دونه من ولي} يعود إلى المشركين الذين الحديث معهم.
وهو إبطال لولاية آلهتهم بطريقة التنصيص على عموم النفي بدخول {من} الزائدة على النكرة المنفية.
وكذلك قوله: {ولا يشرك في حكمه أحدًا} هو ردّ على زعمهم بأنّ الله اتخذ آلهتهم شركاء له في ملكه.
وقرأ الجمهور: {ولا يشرك} برفع {يشرك} وبياء الغيبة.
والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {قل الله أعلم}.
وقرأه ابن عامر بتاء الخطاب وجَزْم و{يشرك} على أن {لا} ناهية.
والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مراد به أمته، أو الخطاب لكل من يتلقاه.
وهنا انتهت قصة أصحاب الكهف بما تخللها، وقد أكثر المفسرون من رواية الأخبار الموضوعة فيها. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض}.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو المختص بعلم الغيب في السموات والأرض. وذكر هذا امعنى في آيات كثيرة، كقوله: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65] وقوله تعالى: {عَالِمُ الغيب والشهادة الكبير المتعال} [الرعد: 9]، وقوله تعالى: {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} [آل عمران: 179] الآية، وقوله تعالى: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} [هود: 123] الآية، وقوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59]، وقوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61]، وقوله تعالى: {عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبَ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 3]، وقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء} [آل عمران: 5]. وبين في مواضع أخر: أنه يطلع من شاء من خلقه على ما شاء من وحيه، كقوله تعالى: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26-27] الآية. وقد اشار إلى ذلك بقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 179] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ}.
أي ما أبصره وما أسمعه جل وعلا. وما ذكره في هذه الآية الكريمة من اتصافه جل وعلا بالسمع والبصر، ذكر ه ايضًا في مواضع أخر، كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير} [الشورى: 11] وقوله: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] وقوله تعالى: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلًا وَمِنَ الناس إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75]. والآيات بذلك كثيرة جدًا.
قوله تعالى: {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة- أن أصحاب الكهف ليس لهم ولي من دونه جل وعلا، بل هو ليهم جل وعلا. وهذا المعنى مذكور في آيات أخر، كقوله تعالى: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257]، وقوله تعالى: {ألا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] فبيت أنه ولي المؤمنين، وأن المؤمنين أولياؤه- والولي: هو من انعقد بينك وبينه سبب يواليك وتواليه به.
فالإيمان سبب يوالي به المؤمنين ربهم بالطاعة، ويواليهم به الثواب والنصر والإعانة.
وبين في مواضع أخر: أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، كقوله: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] الآية. وبين في مواضع أخر: أن نبينا صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6].
وبين في مواضع أخر: أنه تعالى مولى المؤمنين دون الكافرين، وهو قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} [محمد: 11]، وهذه الولاية المختصة بالمؤمنين هي ولاية الثواب والنصر والتوفيق والإعانة، فلا تنافي أنه مولى الكافرين ولاية ملك وقهر ونفوذ مشيئة، كقوله: {وردوا إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الحق وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [يونس: 30]. وقال بعض العلماء: الضمير في قوله: {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ} راجع لأهل السموات والأرض المفهومين من قوله تعالى: {لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض} [الكهف: 26] وقيل: الضمير في قوله: {ما لهم} راجع لمعاصري النَّبي صلى الله عليه وسلم من الكفار. ذكره القرطبي. وعلى كل حال فقد دلت الآيات المتقدمة أن ولاية الجميع لخالقهم جل وعلا، وأن منها ولاية ثواب وتوفيق وإعانة، وولاية ملك وقهر ونفوذ مشيئة. والعلم عند اله تعالى.